اتصل بي هاتفياً الدكتور أبو القاسم سعد الله يخبرني أن المجلس الشعبي البلدي بمدينة قسنطينة سيعقد مؤتمره السنوي بعنوان يوم العلم (16 أبريل 1988م، ذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، ويتناول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأعطاني أرقام الاتصال وكذلك العنوان البريدي وحثني على الاتصال بهم للمشاركة في المؤتمر. فأسرعت إلى كتابة ملخص بحث عن فكر عبد الحميد بن باديس رحمه الله حول التنمية للرد على من اتهم الشيخ عبد الحميد بأنه لم يهتم بالتنمية الاجتماعية والسياسية، والاتهام ليس موجهاً للشيخ بن باديس وحده ولكنه موجه للجمعية وللإسلام، ومصدر هذه الاتهامات بعض الكتاب العرب ذوي التوجه اليساري أو الذين يكتبون من فرنسا أو بتوجهات تغريبية متفرنسة. وما أن وصلهم اقتراحي حتى وصلتني رسالة بموافقتهم أو حتى وصلتني برقية (وقتها لم يكن ثمة فاكس أو بريد إلكتروني، وحتى الهاتف كان صعباً وصعباً جداً) وفي البرقية أنهم سوف يرسلون لي التذكرة.

قمت بإعداد البحث وقدمته إلى عدد من الأساتذة في القسم حيث كنت محاضراً وهو قسم الاستشراق بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة (فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) وحصلت على بعض الملاحظات. ولا أخفيكم فقد كانت بعض الملاحظات مدمّرة، فترى من يقرأ الموضوع بعد مماطلة لا أول لها ولا آخر حتى إنه يرهقك بمطالبته بالقراءة والتصويب فيكثر من الشكوى أنه لا وقت لديه. وهؤلاء أقول لهم بصوت خافض لا يسمعونه وهل تظن أنك تصنع القنبلة الذرية ولا بد أن أشير إلى أستاذ عظيم فاضل لا تكاد تعطيه المقالة أو البحث حتى يقرأه في أيام قليلة ألا وهو الدكتور أحمد الخرّاط أستاذ اللغة العربية والنحو بالمعهد.

ولمّا كان للقسم ندوة أسبوعية تتيح للأساتذة وطلاب الماجستير والدكتوراه أن يقدموا موضوعاً فطلبت أن يؤذن لي بتقديم موضوعي، وبالفعل قدّمت الموضوع، فلما عرف رئيس القسم أني أعددت الموضوع لتقديمه في مؤتمر في الجزائر قال لقد عملت بروفة علينا، قلت وما المانع أن أتدرب. أما العميد فقد قال (لا حول ولا قوة إلاّ بالله) وكأني أرتكب جريمة، ولكن قوله ذاك يعني أنه غير راض فهو يرى أن عليّ أن أغير موضوع بحثي بعيداً عن الجزائر وها أنا أسافر للجزائر فيرى فيه تحد لرأيه أو لاستبداده وديكتاتوريته. وقد عرفت حين بدأت أقدم دورة في تنمية مهارات المشاركة في المؤتمرات أنه من الطرق العملية في التدريب أن تقدم موضوعك أمام زملائك.

وانتظرت التذكرة فلم تصل وهنا تدخل والدي رحمه الله وقال عليك أن تشتري التذكرة بنفسك حتى لو تدينت وبالفعل تدبرت الأمر وسافرت إلى الجزائر ومنها إلى قسنطينة وكان سفري من الجزائر إلى قسنطينة بالسيارة.

وصلت الجزائر فكان في انتظاري الابن الدكتور (الآن) جمال عزون المتخصص في الحديث النبوي الشريف والمخطوطات الجزائرية في العلوم الاجتماعية. وذهبنا من المطار إلى منزل محمود أبو عبد الرحمن الطالب في كلية الشريعة في الجزائر في باب الزوراء. ومكثنا إلى ما بعد العشاء حيث بدأنا البحث عن فندق فلما لم نجد توجهنا إلى حي اسمه حي الجبل ويقال بالفرنسية لا مونتاLa Montagne عند أحد الشيوخ حيث تناولنا عشاء ً لذيذاً يتكون من الكسكسي بالبازلاء والفول الأخضر ومعه لبن رايب. وتبادلنا الأحاديث الودية ثم نمنا حتى الأذان الأول للفجر وبعد صلاة الفجر بدأ درس القرآن الكريم وكان الطلاب يقرؤون والإمام يصحح وعلى الرغم من أني كنت نعساً لكني لم أرد أن أخسر بركة الجلوس مع القوم الذين تحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله فيمن عنده.

وعلى الساعة الثامنة صباحاً بحثنا مجدداً فوجدنا فندقاً لا فندق ومكاناً لا مكان، فندق لا يصلح أن يكون للفئران الميتة…فقلت إني ولدت في بيت متواضع وربما من الطين ولكنه نظيف فتركت حقيبتي وذهبت أتجول طوال النهار بحثاً عن الكتب واشتريت بعض الكتب.

ذهبت إلى الصديق عبد القادر رباني في مكتبه وقابلت هناك الشاب مشاري بن خليفة وكان استقبالهما لي رائعة، فاصطحبني برهومي إلى منزل خاله لتناول الغداء وزرت بعد الغداء بقية المكتبات في ديدوش مراد- أحد أشهر شوارع العاصمة- ثم رجعت إلى الفندق لأخذ حقيبتي لأني لم أطق البقاء فيه. وعلى الساعة السابعة إلاّ ربعاً اصطحبني برهومي للقاء الدكتور أبو القاسم سعد الله حيث وجدت عنده الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي للنشر وقابلت أيضاً ميموني صاحب دار النهضة الجزائرية للنشر.

أردت السفر من الجزائر إلى قسنطينة فأخبرتني الخطوط الجزائرية أن علي أن أدفع قيمة التذكرة بالعملة الصعبة وهذه لا تأتي إلاّ من البنك والأسعار في البنك لا تطاق بعيدة عن الحقيقة والواقع لقيمة الدينار. ولم أكن أملك ما يمكن أن أشتري به التذكرة فتحولت إلى السفر براً وكانت المسافة أربعمائة وخمسين كيلو متر ولكنها لضيق الطريق ولازدحام الطريق في الاتجاهين كانت تساوي سبعمائة كيلومتراً. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان هناك عدد من رجال الدرك الذين يوقفون الركاب والسائقين ربما ليكسبوا قرشاً حراماً وأحياناً. مررت بكثير من المدن والأماكن التي كان لها نشاط سياسي في أثناء الاحتلال منها برج بوعريرج والنويرة والميلة وسطيف وأولاد إبراهيم وعين أرنات التي تبعد عن سطيف بسبعة كيلومتر.

وبدأ المؤتمر بنشيد شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب

والقصيدة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله وإليكم تتمتها:

مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أصْلِـهِ أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَـذبْ

أَوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ رَامَ الـمُحَـال من الطَّـلَـبْ

يَانَشءُ أَنْـتَ رَجَــاؤُنَــا وَبِـكَ الصَّبـاحُ قَـدِ اقْـتَربْ

خُـذْ لِلحَـيـاةِ سِلاَحَـهـا وَخُـضِ الخْـطُـوبَ وَلاَ تَهبْ

وَاْرفعْ مَـنـارَ الْـعَـدْلِ وَالإ حْـسـانِ وَاصْـدُمْ مَـن غَصَبْ

وَاقلَعْ جُـذورَ الخَـــائـنينَ فَـمـنْـهُـم كُلُّ الْـعَـطَـبْ

وَأَذِقْ نفُوسَ الظَّــالـمِـينَ سُـمًّـا يُـمْـزَج بالـرَّهَـبْ

وَاهْـزُزْ نـفـوسَ الجَـامِدينَ فَرُبَّـمَـا حَـيّ الْـخَـشَـبْ

مَنْ كَــان يَبْغـي وَدَّنَــا فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ

أوْ كَـــانَ يَبْغـي ذُلَّـنـَا فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ

هَـذَا نِـظـامُ حَـيَـاتِـنَـا بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ

حتَّى يَعودَ لـقَــومــنَـا من مَجِــدِهم مَــا قَدْ ذَهَبْ

فَــإذَا هَلَكْتُ فَصَيْـحـتـي تَحيـَا الجَـزائـرُ والْـعـرَبْ

هَــذا لكُمْ عَـهْــدِي بِـهِ حَتَّى أوَسَّــدَ في الـتُّـرَبْ

ثم كانت أنشودة أخرى

السجن جنات ونار وأنا المغامر والغمار

أنا والدجى والذكريات *** مريـرة والاصطبار

ومطامح تصلى السعير *** ولا يحـرّقهـا السـعــارُ

طلع النهار على الدنا *** وعلـيّ ما طـلع النهــارُ

ليـل السـجـون يلفني *** وتضمنـي الهمم الكبــارُ

والآه بعد الآهِ شعري *** والـمصـابــرة الشـعـــارُ

ولـكـل آهٍ لسـعة، ولـظى *** وشــــوق، وانــتــظارُ

وأنا الكبير _على أسى قلبي_*** ويجهلني الصغارُ

ليل السجـــون يلفني *** وتضمنـي الهــمم الكبارُ

روحي طليق في السماء *** والجسم يحكمه الإسـارُ

ربــاه، عــفــوك *** إن هذا القلب بالشكوى يحارُ

لا أشتكي لسواك لو *** شكتِ الصدى يوما بحارُ

وبعد النشيدين كانت كلمة المحافظ محمد السعيدي من مكتب التنسيق الولائي، وبعد الافتتاحية كانت كلمة للدكتور محمود حمدي زقزوق –عميد كلية أصول الدين بالأزهر – أصبح وزير الشؤون الدينية فيما بعد في العهد البائد- وكانت المحاضرة بعنوان (القيم ماهيتها وأهميتها)

وكان هناك ترتيب لزيارة قرية سيدي خليفة التي تبعد عن قسنطينة خمسين كيلاً وهي من الريف الجزائري وفيها مكتبة للمخطوطات وتناولنا فيها المرطبات والتمور واللبن المخيض وهو ألذ لبن شربته في الجزائر ولا ينافسه إلاّ اللبن في المغرب أو الذي كنت أصنعه عندما كان لوالدي بعض الأغنام فأقوم بترويب الحليب وصناعة الزبدة والسمن.

وفي هذا الملتقى قابلت عدداً من الشخصيات من الجزائر ومن غيرها من البلاد الإسلامية ومن هؤلاء:

  • الدكتور إبراهيم عاتي من جامعة قسنطينة –معهد العلوم الاجتماعية دائرة الفلسفة
  • الأستاذ عبد الحق بن باديس
  • عبد الله قطاف مدير عام مؤسسة جريدة النصر
  • محمد بوزيد عضو المجلس الشعبي البلدي عضو اللجنة الثقافية
  • الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وكان رقم هاتفة 89-93-93
  • الدكتور الربيع ميمون، وقد عقّب تعقيباً طويلاً على ورقتي أثبته في كتابي (المغرب العربي بين الاستعمار والاستشراق)
  • الدكتور المنصف عبد الجليل من مدرسة المعلمين العليا بتونس

 بعد أن قدمت ورقتي بعنوان (من آفاق التنمية عند ابن باديس) سمعت التعليقات الآتية

  • لقد حلّقت، رائع مبدع
  • قال الدكتور عبد السلام الهرّاس من المغرب العربي: جميل ورائع وأسلوبك سلس وقد أعجبني أسلوبك حتى لا أفرق بين كلامك وكلام سيد قطب.

0 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *